منتديات الحجاز الثقافية  

 


استرجاع كلمة المرور طلب كود تفعيل العضوية تفعيل العضوية
العودة   منتديات الحجاز الثقافية ( ثقافية - تاريخية - أجتماعية ) - alhjaz forums of cultural > منتديات الحجاز الإسلامية - Alhjaz Islamic Forums > الثقافة الإسلامية وفق أهل السنة و الجماعة > التاريخ الإسلامي

الملاحظات

التاريخ الإسلامي تشمل المدن والآثار التاريخية مساجد بيوت أدوات حرب ممالك وقادة وحكام وصور وغيرها

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 24-03-2013, 12:58 PM   #1
دموع القمر
.:: حجازي برونزي ::.
 
الصورة الرمزية دموع القمر
 
تاريخ التسجيل: Feb 2013
المشاركات: 450
معدل تقييم المستوى: 12
دموع القمر ممتاز
افتراضي أدوية الأمة عند المآسي والفتن

أدوية الأمة عند المآسي والفتن


غربتنا شديدة لا يعلمها إلا الله، يتلفت المسلم حوله فيرى شراً مستطيراً، وعدواً متجبراً.
الأعداء كثير، والتخطيط محكم، سلاحهم قوي، حاملات، وطائرات، وصواريخ، وقنابل، وأقمار ترقب، وعدو يترقب، حاملات يهودية وأخرى صليبية، أحاطوا بالأمة إحاطة السوار بالمعصم، ووضعوا حبال مكرهم وبطشهم حول رقبتها، وشدوا الحبل ليخنقوها، يتلفت المسلم فيرى حوله في بلاد المسلمين خراباً ودماراً، أيتاماً وأيامى، أرامل ومفجوعين، بيوت تهدم، وأعراض تنتهك، وحمىً يستباح، وثروات تنهب، وهيمنة وتسلط واستبداد، وظلم وتحكم القوي على الضعيف، والجبار على الأسير.. يضاف إلى ذلك ما تعانيه الأمة من الضعف، والهوان، والفُرقة.

فالأمة تعيش أحوالاً عصيبة، قد تكون أحرج أيام مرت بها عبر التاريخ.. وهي أحوج ما تكون إلى الدواء الناجع المآسي والفتن التي أقعدتها عن القيام بواجبها.

ومهما يكُ من شيء فإن هذه الأمة أمة مباركة موعودة بالنصر والتمكين متى توكلت على الله، وأخذت بالأسباب.

وهذا الدين أنزله الله - عز وجل - وبعث به الرسول }لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ{[التوبة: 33].

أما التعامل مع هذه المآسي والمصائب والفتن فهو مبين في كتاب الله - عز وجل - وسنة نبيه. وثمة طرق كثيرة تعين - بإذن الله - على حسن التعامل مع المآسي والفتن والمصائب، والخروج منها بأمان، وفيما يلي جملة من هذه الطرق التي تحدث عنها علماء ومفكرون ومؤرخون، ومارسها وطبقها قادة الأمة العظماء عبر تاريخها الحافل بالعبر والعظات، مستندين جميعاً إلى شريعة الإسلام ومقاصده.

وسائل التداوي من المآسي:

- الاعتصام بالكتاب والسنة:

وهذا جماع هذا الباب كله؛ إذ جميع المعالم الآتية داخلة فيه، متفرعة عنه، قال الله تعالى: }وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ{ [آل عمران: 101]

وقال رسول الله: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض).

وقال عليه الصلاة والسلام - في حديث العرباض ابن سارية-: (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة).

فالتمسك بالوحيين عصمة من الزلل، وأمان - بإذن الله - من الضلال. وليس الاعتصام بهما اعتقاد وقول وعمل عمل في جميع أمور الحياة.

ويعظم هذا الأمر حال الفتن؛ إذ يجب الرجوع فيها إلى هداية الوحيين؛ لكي نجد المخرج والسلامة منها.

- التوبة النصوح:

فهي واجبة في كل وقت، وهي في هذه الأوقات أوجب: }فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا{ [الأنعام: 43].

ولنا في قصة قوم يونس - عليه السلام - عبرة وموعظة؛ فهم لما رأوا نُذُر العذاب قد بدأت تلوح لجؤوا إلى الله، وتضرعوا إليه، فرفع الله عنهم العذاب ومتعهم بالحياة إلى حين مماتهم، وانقضاء آجالهم.

فعلى الأمة أن تتوب، وأن تدرك أن ما أصابها إنما هو جارٍ على مقتضى سنن الله التي لا تحابي أحداً كائناً من كان؛ فتتوب من المنكرات التي أشاعتها من شرك، وحكم بغير ما أنزل الله، وتقصير في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتتوب من المظالم، والربا، والفسق، والمجون، والإسراف، والترف، وما إلى ذلك مما هو مؤذن باللعنة، وحلول العقوبة.
وعلى كل فرد منا أن ينظر في حاله مع ربه، وفي جميع شؤونه؛ لأن }مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ{ [الشورى: 30].

فحري بالمسلم في مثل هذه الأيام أن يزداد إقبالاً على الله ذكراً وإنابة، وصلاة، ونفقة، وبراً بالوالدين، وصلة للأرحام، وإحساناً إلى الجيران، وحرصاً على تربية الأولاد، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة.

وجدير به أن يكثر من الاستغفار؛ فهو من أعظم أسباب دفع العذاب: }وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُوْنَ{ [الأنفال:33]، وأن نُقْبِل على أعمال القلوب من خوف، ورجاء، ومحبة، وغيرها.

التوبة وظيفة العمر – محمد الحمد
وكما يقول الشيخ محمد الحمد فإن التوبة وظيفة العمر، وبداية العبد ونهايته، وأول منازل العبودية، وأوسطها، وآخرها.

وحاجتنا إلى التوبة ماسة، بل إن ضرورتنا إليها مُلِحَّة؛ فنحن نذنب كثيراً، ونفرط في جنب الله ليلاً ونهاراً؛ فنحتاج إلى ما يصقل القلوب، وينقيها من رين الذنوب.

والحديث عن التوبة يشمل كافة الناس، ويخاطب جميع الطبقات، ويُحتاج إليه في جميع مراحل العمر.

وللتوبة فضائل جمة، وأسرار بديعة، وفوائد متعددة، ومن ذلك ما يلي:
- التوبة سبب للفلاح: قال تعالى: }وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ [النور: 31].

قال أبو السعود: "تفوزون بذلك بسعادة الدارين".

وقال ابن كثير: "أي افعلوا ما آمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة؛ فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهيا عنه".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يتلذذ، ولا يسر، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه، والإنابة إليه. ولو حصل له كل ما يتلذذ به من المخلوقات لم يطمئن، ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده، ومحبوبه، ومطلوبه. وبذلك يحصل له الفرح، والسرور، واللذة، والنعمة، والسكون، والطمأنينة".

- بالتوبة تكفر السيئات: فإذا تاب العبد توبة نصوحاً كفَّر الله بها جميع ذنوبه وخطاياه. قال تعالى: }قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{ [الزمر: 53].

وقال: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ{ [التحريم: 8].

- التوبة سبب لنزول الأمطار، وزيادة القوة، والإمداد بالأموال والبنين: قال تعالى على لسان هود عليه السلام: }وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ{ [هود: 52].

وقال عز وجل على لسان نوح عليه السلام: }فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً{ [نوح: 10-12].

- أن يعرف العبد حقيقة نفسه، وأنها الظالمة الجهول، وأن ما صدر منها من شر فقد صدر من أهله ومعدنه؛ إذ الجهل والظلم منبع الشر كله، وأن كل ما فيها من خير، وعلم، وهدى، وإنابة وتقوى فهو من ربها الذي زكاها، وأعطاها إياه.

فإذا ابتلي العبد بالذنب عرف نفسه، ونقصها؛ فَرُتّب له على ذلك حكم ومصالح عديدة، منها أن يأنف نقصها، ويجتهد في كمالها، ومنها أن يعلم فقرها إلى من يتولاها، ويحفظها.

- أن يعامل العبد بني جنسه بما يحب أن يعامله الله به، فيعامل بني جنسه في زلاتهم، وإساءاتهم بما يحب أن يعامله الله به في إساءاته وزلاته، وذنوبه؛ فإن الجزاء من جنس العمل؛ فمن عفى عفى الله عنه، ومن استقصى استقصى الله عليه وهكذا...

- التحرز والتيقظ من العدو: فإذا تاب العبد، وأدرك ما هو فيه من الخطأ، وندم على ما كان منه من التفريط أوجب له ذلك تمام التحرز والتيقظ؛ فيعلم من أين يدخل عليه اللصوص، والقطاع؟، ويعرف مكامنَهم، ومن أين يخرجون عليه؟، ومتى يخرجون؟، فهو قد استعد لهم، وتأهب، وعرف بماذا يستدفع شرهم وكيدهم؛ فلو أنه مر عليهم على غرَّة وطمأنينة لم يأمن أن يظفروا به، ويجتاحوه جملة.

- معرفة الشر؛ وحذر الوقوع فيه: فالذي يقع في الذنب ثم يتوب يصير كالطبيب ينتفع به المرضى في علاجهم ودوائهم؛ فالطبيب الذي عرف المرض مباشرة، وعرف دواءه وعلاجه أحذق وأخبر من الطبيب الذي عرف الداء وصفاً فحسب. هذا في أمراض الأبدان، وكذلك أمراض القلوب وأدواؤها. ولذلك كان الصحابة - رضي الله عنهم - أعرف الأمة بالإسلام، وتفاصيله، وأبوابه، وطرقه، وأشد الناس رغبةً فيه، ومحبة له، وجهاداً لأعدائه؛ لعلمهم بضده.

فإذا عرف العبد الضدين، وعلم مباينة الطرفين، وعرف أسباب الهلاك على التفصيل كان أحرى أن تدوم له النعمة، ما لم يُؤْثرْ أسباب زوالها.

- الدعاء:

الدعاء من أعظم أسباب النصر والسلامة من الفتن، قال عز وجل: }ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ{ [غافر: 60].

فثمرة الدعاء مضمونة بإذن الله إذا أتى الداعي بشرائط الإجابة؛ فحري بنا أن نكثر الدعاء لأنفسنا بالثبات، وأن ندعو لإخواننا بالنصر، وأن ندعو على أعدائنا بالخيبة والهزيمة.

وإذا اشتبه على الإنسان شيء مما اختلف فيه الناس فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله (كان يقول إذا قام يصلي من الليل: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).

فإذا انطرح العبد بين يدي ربه وسأله التوفيق والهداية والصواب والسداد فإن الله لن يخيب رجاءه، وسيهديه بإذنه إلى سواء السبيل؛ فقد قال تعالى - فيما رواه مسلم في صحيحه: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم).

- الحرص على جمعالكلمة ورأب الصدع:

فالأمة مثخنة بالجراح، وليست بحاجة إلى مزيد من ذلك. بل هي بحاجة إلى إشاعة روح المودة، والرحمة، ونيل رضا الله بترك التفرق ونبذ الخلاف.

وذلك يتحقق بسلامة الصدر، ومحبة الخير للمسلمين، والصفح عنهم؛ التجاوز عن زلاتهم والتماس المعاذير لهم، وإحسان الظن بهم، ومراعاة حقوقهم، ومناصحتهم بالتي هي أرفق وأحسن.

وتكون بالتغاضي، والبعد عن إيغار الصدور، ونكأ الجراح.

قال تعالى: }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا{ [آل عمران: 103].

وقال: }لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً{ [النساء: 114].

وقال رسول الله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).

- قيام روح الشورى:

خصوصاً بين أهل العلم، والفضل، والحل والعقد، وذلك بأن ينظروا في مصلحة الأمة، وأن يقدموا المصالح العليا قال الله تعالى في وصف المؤمنين: }وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ{ [الشورى: 38].

وقال عز وجل: }وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ{[آل عمران: 159].

فقد أذن الله له بالاستشارة وهو غني عنها بما يأتيه من وحي السماء؛ تطييباً لنفوس أصحابه، وتقريراً لسنة المشاورة للأمة من بعده.

وكان أبو بكر الصديق من العلم بالشريعة، والخبرة بوجوه السياسة في منزلة لا تطاولها سماء، ومع هذا لا يبرم حكماً في حادثة إلا بعد أن تتداولها آراء جماعة من الصحابة.

وهكذا كان عمر في الشورى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فكان عمر يشاور في الأمور لعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد ابن ثابت وأبي موسى ولغيرهم، حتى كان يدخل ابن عباس معهم مع صغر سنه.

وهذا مما أمر الله به المؤمنين ومدحهم عليه بقوله: }وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ{ [الشورى: 38].

ولهذا كان رأي عمر وحكمه، وسياسته من أسدِّ الأمور، فما رؤي بعده مثله قط، ولا ظهر الإسلام وانتشر، وعزَّ كظهوره، وانتشاره، وعزه في زمنه.

وهو الذي كسر كسرى، وقصر قيصر الروم، وكان أميره الكبير على الجيش الشامي أبا عبيدة، وعلى الجيش العراقي سعد بن أبي وقاص، ولم يكن لأحدٍ بعد أبي بكر مثل خلفائه ونوابه وعماله وجنده وأهل شوراه.

وكما كانت هذه هي سيرةَ الخلفاء الراشدين في الشورى، فكذلك كانت سيرة من جاء بعدهم، فهذا معاوية الذي كان مضرب المثل في الدهاء والحلم وكياسة الرأي كان يأخذ بسنة الشورى.

جاء في (الثمار) للثعالبي: دهاء معاوية ذلك ما اشتهر أمره، وسار ذكره، وكثرت الروايات والحكايات فيه، ووقع الإجماع على أن الدهاة أربعة: معاوية، وعمرو ابن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه.. فلما كان معاوية بحيث هو من الدهاء وبعد الغور، وانضم إليه الدهاة الثلاثة الذين يرون بأول آرائهم أواخر الأمور، فكان لا يقطع أمراً حتى يشهدوه، ولا يستضيء في ظلم الخطوب إلا بمصابيح آرائهم، سلم له أمر الملك، وألقت إليه الدنيا أزمتها، وصار دهاؤه ودهاء أصحابه الثلاثة مثلاً.
ثم إن للشورى فوائد عظيمة منها تقريب القلوب، وتخليص الحق من احتمالات الآراء، واستطلاع أفكار الرجال، ومعرفة مقاديرها؛ فإن الرأي يمثِّل لك عقلَ صاحبه كما تمثل لك المرآةُ صورةَ شخصِه إذا استقبلها.

وقد ذهب الحكماء من الأدباء في تصوير هذا المغزى مذاهب شتى، قال بعضهم:

إذا عـنَّ أمرٌ فاستشـر فـه صاحباً
وإن كنت ذا رأي تشير على الصحبِ
فإني رأيت الـعين تـجهل نفسـها
وتدرك ما قد حل في موضع الشهب

وقال آخر:

اقرن برأيك رأي غيرك واستشر
فالـحق لا يخفى على الاثنـين
والمـرء مرآةٌ تـريه وجـهه
ويرى قفـاه بـجمع مـرآتين

وقال آخر:

الرأي كـاللـيل مسـوداً جوانبـه
والـليـل لا ينجـلي إلا بإصـباح
فاضمم مصابيحَ آراءِ الرجال إلـى
مصباح ضوئك تزددْ ضوءَ مصباح
وإذا كان العالم النحرير، والحكيم الداهية، والقائد الحصيف لا يستغنون عن الشورى فكيف بمن دونهم، بل كيف بمن كان شاباً في مقتبل عمره، ولم تصلب بعد قناته، ولم تُحَنِّكْهُ التجارب؟!.
- لزوم جماعة المسلمين وإمامهم:

والمقصود بالجماعة - هاهنا - الجماعة الكبرى، وهي التي ينتظم فيها أفراد الأمة الإسلامية جمعاء، أو أفراد البلد الواحد.
ويكون أفراد تلك الجماعة مأمورين بالقيام بحقوقها، والدفاع عنها، والحذر من الإخلال بوحدتها، والبعد عن كل ما يسبب فرقتها وتفكيك جامعتها.

ولا ريب أن الجماعة ضرورة لازمة، ولا بد لها من دين تجتمع عليه، ونظام يضبط أحوالها، وقائد يقودها إلى ما فيه صلاحها.

وأي جماعة يجب المحافظة عليها أعظم من جماعة المسلمين؟، وأي دين يحفظ على الأمة نظامها، ويكفل مصالحها العاجلة والآجلة أعظم من دين الإسلام؟.

والمقصود بإمام المسلمين ولي أمرهم الذي يتولى إمامتهم، وتجتمع عليه كلمتهم.

وعن الإمامة يقول الماوردي: موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين، وسياسة الدنيا.

وهي - كما يقول الجويني: رياسة تامة، وزعامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا.

وقد حدد الماوردي الواجبات الشرعية المطلوبة من الحاكم، فقال والذي يلزم الإمام من الأمور العامة عشرة أشياء:

أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة وبين له الصواب وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروساً من خلل والأمة ممنوعة من زلل.

الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.

الثالث: حماية البيضة والذب عن الحريم ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.

الرابع: إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.

الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرماً أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دماً.

السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله.

السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير خوف ولا عسف.

الثامن: تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.

التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال، لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة والأموال بالأمناء محفوظة.

العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال; لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح، وقد قال الله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [ص: 26].

فلم يقتصر الله سبحانه على التفويض دون المباشرة ولا عذره في الاتباع حتى وصفه بالضلال، وهذا وإن كان مستحقاً عليه بحكم الدين ومنصب الخلافة فهو من حقوق السياسة لكل مسترع قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).

ولقد أصاب الشاعر فيما وصف به الزعيم المدبر حيث يقول:

وقـلـدوا أمــركـم لله دركــم
رحب الذراع بأمـر الحرب مضطلعا
لا مترفاً إن رخـاء العيش سـاعده
ولا إذا عض مـكـروه به خشـعاً
ما زال يحلب در الدهـر أشـطره
يكـون متبـعاً يـوماً ومـتبـعاً
حتـى استمر على شزر مـريرته
مستحكم الرأي لا فخماً ولا ضرعاً
وقال محمد بن يزداد للمأمون - وكان وزيره -:
من كان حارس دنيا إنه قمن
أن لا ينام وكل الناس نـوام
وكيف ترقد عيناً من تضيفه
همان من أمره حل وإبـرام
وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله.
إذاً ففي لزوم جماعة المسلمين وإمامهم طاعة لله، ورسوله وسلامة من الشذوذ، ونجاة من الفتن، وأمان من العقوبات العاجلة والآجلة.

وجاء في الصحيحين عن حذيفة ابن اليمان قال: (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنَّا كنَّا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟، قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟، قال: نعم، وفيه دَخَنٌ، قلت: وما دَخَنُه؟، قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟، قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله، صِفْهم لنا؛ فقال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟، قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).

قال ابن جرير الطبري: والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره؛ فمن نكث بيعة خرج على الجماعة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الحديث: وهذه الثلاث تجمع أصول الدين وقواعده، وتجمع الحقوق التي لله ولعباده، وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة.

- الرجوع إلى العلماء الراسخين في العلم:

قال الله تعالى: }وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً{ [النساء:83].

قال الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي في تفسير هذه الآية: هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة مما يتعلق بالأمن، وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم: أهل الرأي، والعلم، والنصح، والعقل، والرزانة، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح وضدها.

فإذا رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين، وسروراً لهم، وتحرزاً من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا ما ليس فيه مصلحة، أو فيه مصلحة، ولكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه.

ولهذا قال: }لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ{، أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة، وعلومهم الرشيدة.

وفي هذا دليل لقاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يُتقدم بين أيديهم؛ فإنه أقرب إلى الصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ.

- الصبر:

قالتعالى: }إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ{ [آل عمران: 120].
وقال عز وجل: }لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ{ [آل عمران: 186].

ومن أعظم الصبرِ الصبرُ على هداية الناس، والصبر على انتظار النتائج؛ لأن استعجال الثمرة قد يؤدي إلى نتائج عكسية تضر أكثر مما تنفع؛ فالصبر إذا اقترن بالأمر كان عصمة من الملل واليأس والانقطاع، وتفجرت بسببه ينابيع العزم والثبات.

إنه الصبر المترع بأنواع الأمل العريض، وليس صبر اليائس الذي لم يجد بداً من الصبر فصبر.

وبالجملة فإن الصبر من أعظم الأخلاق، وأجلّ العبادات، وإن أعظمَ الصبرِ وأحمده عاقبةً الصبرُ على امتثال أمر الله، والانتهاء عمّا نهى الله عنه؛ لأنه به تَخْلُص الطاعة، ويصِحُّ الدين، ويُسْتَحَقُ الثوابُ؛ فليس لمن قل صبرُه على الطاعةُ حظٌّ من بِرٍّ، ولا نصيبٌ من صلاح.

ومن جميل الصبر: الصبرُ فيما يُخْشَى حدوثُه من رهبة يخافها، أو يحذرُ حلولُه من نكبةٍ يخشاها، فلا يتعجلْ همَّ ما لم يأتِ؛ فإن أكثر الهموم كاذبة، وإن الأغلب من الخوف مدفوع.

ومن جميل الصبرِ: الصبرُ على ما نزل من مكروه، أو حلّ من أمر مخوف؛ فبالصبر في هذا تنفتحُ وجوهُ الآراءِ، وتُسْتَدْفَعُ مكائدُ الأعداءِ؛ فإن من قلّ صبره عَزُب رأيه، واشتد جزعُه، فصار صريعَ همومه، وفريسةَ غمومه.

وكما أن الأفرادَ بأمسِّ الحاجةِ إلى الصبر فكذلك الأمة؛ فأمة الإسلام كغيرها من الأمم؛ لا تخرج عن سنن الله الكونية، فهي عرضةٌ للكوارث والمحن.

وهي في الوقت نفسه مكلفةٌ بمقتضى حكم الله الشرعي بحمل الرسالة الخالدة، ونشر الدعوة المباركة، وتحمُّلِ جميعِ ما تلاقيه في سبيلها برحابة صدر، وقوةِ ثباتٍ، ويقينٍ بأن العاقبة للتقوى وللمتقين.

- الاستفادة في التاريخ:

كتاريخ الحروب الصليبية؛ وذلك لأخذ العبرة، وطرد شبح اليأس، والبحث عن سبل النجاة والنصر.

فلو نظرنا - على سبيل المثال - إلى كتب التاريخ لرأينا العجب من تسلط الصليبين، ولرأينا أن بغداد وبيت المقدس - على سبيل المثال - يتكرر ذكرهما كثيراً؛ فلقد لاقت تلك البلاد من البلاء ما الله به عليم، ومع ذلك ظلت صامدة، محافظة إلى حد كبير على إسلامها وعراقتها.

والتاريخ يعيد نفسه في هذه الأيام، وتلك البلاد وغيرها من بلاد المسلمين - بإذن الله - ستصمد في وجوه اليهود والنصارى المعتدين.
ولو نظرنا في كتب التاريخ التي تحدثت عن غزو التتار لبلاد المسلمين، وكيف كانت شراسة تلك الهجمة، وكيف خالط النفوس من الرعب ما خالطها، وكيف بلغ ببعضها اليأس من أن تقوم للإسلام قائمة بعد ذلك.

وما هي إلا أن كشف الله الغمة، وأعاد العز والمجد للأمة، بل إن التتار أنفسهم دخلوا في الإسلام.

ومن النظر في التاريخ النظر في سير أبطال الإسلام وقواده إبان الحروب الصليبية، وخصوصاً نور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي - عليهما رحمة الله - فسيرتهما تحمل في طياتها عبراً عظيمة تفيد في هذا الشأن كثيراً؛ حيث حرصا على توحيد الأمة، ولم شعثها، ورفع الذلة والإحباط اللذين خالطا كثيراً من النفوس.

كما أنهما حرصا على الإعداد المتكامل للجهاد في سبيل الله؛ فنالت الأمة بذلك سؤدداً، ومجداً، ورفعة.

- الإفادة منالتجارب:

فذلك من جميل ما ينبغي؛ فالحياة كلها تجارب، واستفادة من التجارب، وميزة إنسان على إنسان، وأمة على أمة هي القدرةُ على الاستفادة من التجارب وعدمُها؛ فالحوادث تمر أمام جمع من الناس؛ فيستفيد منها أناس بمقدار مائة، وآخرون بمقدار خمسين وهكذا، وآخرون تمر منهم الحوادث على عين بلهاء، وقلب معرض؛ فلا يفيدون منها شيئاً، ولا تحسُّ له وجبةً، ولا تسمع لهم ركزاً.

والفرق بين من يستفيد من التجربة ومن لا يستفيد أن الأول يستطيع انتهاز الفرص في حينها، وأن يتجنب الخطر قبل وقوعه.

على حين أن الثاني لا ينتهز فرصة، ولا يشعر بالخطر إلا بعد وقوعه؛ فلا يليق إذاً أن تمر بنا وبأمتنا التجارب؛ فنكررَ الخطأ، ولا نفيدَ من عبر الماضي.

ولا يحسن بنا أن نُغْفِل تعامل أسلافنا مع ما مر بهم من البلايا، وكيف تجاوزوا تلك المحن والفتن، بل علينا أن نقبس من هداهم، ونستَلْهِم العبر من صنيعهم.

- التذكير بعاقبة الظلم:

فمهما طال البلاء، ومهما استبد الألم فإن عاقبة الظلم وخيمة، وإن العاقبة الحميدة إنما هي للتقوى وللمتقين، كما بين ذلك ربنا في محكم التنزيل؛ فماذا كانت عاقبة النمرود، وفرعون، وهامان وقارون، وغيرهم ممن طغى وتجبر وظلم؟: إنها الدمار، والبوار، وجهنم وبئس القرار.

وماذا كانت عاقبة الأنبياء والمصلحين المقسطين من عباد الله المؤمنين ؟: إنها الفلاح والنصر، والتمكين، والجنة ونعم عقبى الدار.

وكما يحسن التحذير من الظلم العام على مستوى الأمة يحسن كذلك التحذير من الظلم أيَّاً كان نوعه، سواء في الحكم على الناس، أو الأقوال، أو الأشخاص.

- الثقة بالله، واليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين:

فإن من أهم ما يجب على المؤمن - في هذا الصدد - أن يقوي ثقته بربه، وأن ينأى بنفسه عن قلة اليقين بأن العاقبة للمتقين؛ فهناك من إذا شاهد ما عليه المسلمون من الضعف والتمزق، والتشتت، والتفرق، ورأى تسلط أعدائهم عليهم، ونكايتهم بهم أيس من نصر الله، وقنط من عز الإسلام، واستبعد أن تقوم للمسلمين قائمة، وظن أن الباطل سيدال على الحق إدالة دائمة مستمرة يضمحل معها الحق، وقد يؤدي بهذا الشخص إلى الارتماء في أحضان الأعداء والاقتداء لهم.

فهذا الأمر جد خطير؛ وهو مما يعتري النفوس الضعيفة، التي قل إيمانها، وضعف يقينها.

فهذا الشعور مما ينافي الإيمان الحقَّ، وهو دليلٌ على قلة اليقين بوعد الله الصادق، والتفاتٌ إلى الأمور المحسوسة دون نظر إلى عواقب الأمور وحقائقها.

وإلا كيف يُظَنُّ هذا الظن والله - عز وجل - قد كتب النصر في الأزل، وسبقت كلمته بأن العاقبة للتقوى وللمتقين، وأن جنده هم الغالبون، وهم المنصورون، وأن الأرض يرثها عباده الصالحون؟.

فمن ظن تلك الظنون السيئة فقد ظن بربه السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله، وكماله، وصفاته، ونعوته؛ فإن حمده، وعزته، وحكمته، وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يُذِل حزبه وجنده، وأن تكون النصرةُ والغلبةُ لأعدائه.

فمن ظن ذلك فما عرفه، ولا عرف ربوبيته، وملكه، وعظمته؛ فلا يجوز في حقه - عز وجل - لا عقلاً ولا شرعاً أن يُظْهِر الباطل على الحق، بل إنه يقذف بالحق على الباطل فإذا هو زاهق.

أما ما يشاهد من تسلط الكفار واستعلائهم _ فإنما هو استعلاء استثنائي، وهو استدراجٌ وإملاءٌ من الله لهم، وعقوبة للأمة المسلمة على بعدها عن دينها.

ثم إن سنة الله ماضية }مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ{ [النساء:123]، وهذه الأمة تذنب، فتعاقب بذنوبها عقوبات متنوعة منها ما مضى ذِكْرُه؛ كي تعود إلى رشدها، وتؤوب إلى ربها، فتأخذ حينئذ مكانها اللائق بها.

ثم إن هذه الأمة أمة مرحومة تعاقب في هذه الدنيا، حتى يخف العذاب عنها في الآخرة، أو يغفر لها بسبب ما أصابها من بلاء.

- الوقوف معالشعوب الإسلامية المظلومة:

وخصوصا تلكالشعوب التي توالت عليها المصائب، وتتابعت عليها الخطوب؛ فنقف معها بالدعاء، والتثبيت، والتصبير، وبذل المستطاع.
كما ينبغي ألا تنسينا أي مصيبة من المصائب مصائبنا الأخرى؛ فوضع الأمور في نصابها يجدي كثيراً، ويصد شراً مستطيراً.

- إشاعة روح التفاؤل:

فإن ذلك مما يبعث الهمة، ويدعو إلى اطراح الخور والكسل، ويقود إلى الإقبال على الجد والعمل؛ فلنثق بالله عز وجل ونصره وتأييده، ولنحذر من كثرة التلاوم، وإلقاء التبعات على الآخرين، ولنحذر من القنوط واليأس، والتشاؤم؛ فالإسلام لا يرضى هذا المسلك بل يحذر منه أشد التحذير.. ثم لنثق بأن في طي هذه المحن منحاً عظيمة.

كم نعمة لا تستقل بشكرها لله في طي المكاره كامنة
وبالجملة فإن التفاؤل دأب المؤمن، وهو سبيل التأسي بالنبي خصوصاً في وقت اشتداد المحن؛ وليس أدل على ذلك مما كان في غزوة الأحزاب بالمدينة، وبلغت القلوب الحناجر، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يبشر أصحابه بمفاتيح الشام، وفارس، واليمن.
وإذا تُحدث عن الفأل، والحث على نشره فإن ذلك لا يعني القعود، والخمود، والهمود؛ كحال من يؤملون الآمال العراض، ويفرطون في الأماني بحجة أن ذلك من الفأل، وهم كسالى قاعدون، لا يتقدمون خطوة، ولا ينهضون من كبوة.

بل إن الفأل المجدي هو ذلك الذي يحرك صاحبه، ويبعثه على الجد، ويشعره بالنجاح، ويقوده إلى إحسان الظن، ويبشر بحسن العواقب.

- ومن أوجه التفاؤل رفع المعنويات:

فعندما يرى المسلمهذا الظلم المنتشر والأمة متخبطة متفرقة متناحرة، يرى قلة الناصر وضعف المعين فيقول: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21]، وأن الهلاك هو العقوبة.

وكما يقول الشيخ محمد المنجد فإن من واجب الدعاة إلى الله في ظل الظلمات الواقعة اليوم أن يشيعوا نور الأمل، ويخبروا الناس بحقيقة الفجر السَّاطع الذي لا يأتي إلا بعد شيوع ظلمة الليل.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشِّروا ولا تنفروا)، هكذا كان حال الرعيل الأول من المؤمنين لا تزيدهم الفتن والبلاء إلا ثباتاً وإيماناً: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22]، وذلك أنهم مهما وقع عليهم من البلاء والضيم فهم الأعلون كما قال الله: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].

ويوضح المنجد أن المؤمن يعرف كيف يتصرف، كيف ينهض ويعمل؛ ليصل بالواقع المتدني إلى المستوى المطلوب، وليس من الصحيح أن يصدر الحكم على الأمة بالهزيمة، وأنها تنتظر رصاصة الرحمة، وأنها قاعدة بلا حولٍ ولا قوة، كلا.

إنه يترفع عن ذلك، ولا يطلق عليها وصف الهلاك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكُهم) أو (فهو أهلكَهم)، هاتان الروايتان على الرفع: (أهلكُهم) معناها: أشدهم هلاكاً، وعلى النصب (أهلكَهم) فمعناها: هو جعلهم هالكين لا أنهم هلكوا في الحقيقة.

فأما ما في هذا الحديث فإن معناه: أن الرجل لا يزال يعيب الناس ويذكر مساويهم، ويقول: فسدوا وهلكوا ونحو ذلك، فإذا فعل فهو أهلكهم أي: أسوأ حالاً منهم؛ لما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منهم، فلا يدخل في هذا من قالها تحزناً لما يرى في نفسه وفي واقع الناس من نقص أمر الدين.

إن المسلم عندما يرى هذا البلاء المسيطر فإنه بالرغم من ذلك ينظر إلى بصيص الأمل، ويعلم أن الأيام يداولها الله بين الناس، وأن الاستضعاف مرحلة لا بد أن تأتي بعدها القوة، فهو وإن نظر إلى انتشار الفواحش والمعاصي فلا يحكم على الناس جميعاً بالهلاك، ولا يقول: لا مخرج ولا فائدة، فإن هذا من سوء الظن بالله، وإحباطٍ لمعنوياتِ الأمة والدعاة والمصلحين.

إن رفع المعنويات في هذا الزمان مهم جداً لنا للعمل، إنه المتنفس، لقد كان القرآن الكريم يرفع من معنويات المؤمنين بكلام الله الذي ينزل على نفوسهم برداً وسلاماً، حتى في لحظات البلاء والشدائد: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].

ومن رفع المعنويات في القرآن: أنه كان يبشر بقرب النصر والفرج به إذا حصل، كان ذلك للمؤمنين المضطهدين في مكة تحت الحصار والجوع والقتل والتعذيب والتشويه الإعلامي؛ فكان يقال لهم: {الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ } [الروم:1-5].

لما أصيب المسلمون بالإحباط في غزوة أحد عندما قتل منهم سبعون، مآسٍ حصلت، الدواب تحمل بالجثث منطلقة إلى المدينة، هذه تخبر بأنها قد أصيبت بأبيها وأخيها وزوجها، وهذه بابنها، وتلك بخالها وعمها، أيتام وأرامل، ألمٌ نفسي، وهمٌ عظيم أصاب المسلمين في أحد، ماذا سيقول العرب الذين ينظرون؟، ماذا يجري بينهم وبين كفار قريش؟، وسيقول العرب: هؤلاء هزموا، ودينهم لم ينصرهم، فماذا سيكون من التولي إذن، والقوة للكفار؟، ومع ذلك تأتي الآيات ترفع المعنويات وتحيي الأمل في النفوس، يذكرهم أولاً: بأن نصراً قريباً قد حصل: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123]، ويعدهم بنصرٍ ومدد فيقول: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [آل عمران:124]، بل هناك زيادة: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125].

بعد الغزوة كان الصحابة يحتاجون أحوج ما كانوا إلى رفع المعنويات, بعد الذي لاقوه من الهزيمة والجراحات والقتل؛ فقال الله لهم مخففاً ومسلياً ورافعاً لنفوسهم: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ} [آل عمران:139]، وإن هزمتم بالسلاح فأنتم الأعلون منهجاً وديناً أنتم الأعلون شرعةً وشريعةً أنتم الأعلون بما في نفوسكم من الإيمان بالله عز وجل الذي تضعون به جباهكم لرب العالمين ساجدين: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].

ويذكرهم بما لحق الكفار من المصائب ويقول لهم: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140]، كما أصابكم ما أصابكم فقد أصاب الكفار أيضاً قتل وجراح، وهذه أشياء نشهدها حتى اليوم في حال المسلمين المستضعفين في فلسطين، بالرغم مما يصيبهم فإنه يصيب اليهود أيضاً قتل ودمار، يصيبهم أيضاً في اقتصادهم وأمنهم، وهكذا يداول الله الأيام بين الناس: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140].

وقوة الله وضعف الكفار هو المبدأ الذي كان يرفع من معنويات المسلمين، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} [النساء:84]، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، {إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160].

وهكذا كان ما أصاب المسلمين مع ما أصاب الكفار، وإن تماثل في الصورة لكن الفرق يرفع معنويات المسلمين، وقال لهم ربهم: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104]، لكن ما هو الفرق؟: {وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]. كانت قضية التثبيت في المعارك، ورفع المعنويات بالرغم من قلة عدد المؤمنين وكثرة عدد الكفار، عندما يقول المؤمنون للمرجفين المخذلين الذين يقولون: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249]، ماذا قال لهم أولئك؟: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].

مواقف الثابتينترفع المعنويات

المواصلة وعدم القعود بالرغم من حجم المصيبة ترفع المعنويات، هذا المبدأ الذي مثله أنس بن النضر وهو يقول للمسلمين عندما أشيع قتل النبي عليه الصلاة والسلام، فقعد بعضهم محبطاً يائساً قال: (ما تنتظرون؟، قالوا: قُتل رسول الله، قال: فما تصنعون بالحياة بعده، قوموا فموتوا على ما مات عليه).

لما فرَّ من فرَّ من المسلمين في حنين والنبي عليه الصلاة والسلام على بغلته البيضاء، و أبو سفيان آخذٌ بلجامها، والنبي عليه الصلاة والسلام يستصرخ العباس لكي يصرخ بالمسلمين ليرجعوا وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، وهكذا فإن مواقف الثابتين ترفع المعنويات.

ومن بين الدروس في الثبات ثبات المظفر قطز في مواجهة واحد من أعظم الأخطار التي واجهتها الأمة في تاريخها، فقد كان العالم الإسلامي تحت التتار، الذين اجتاحوه وقتلوا الملايين من المسلمين.

ولما اجتمعت العساكر الإسلامية في الديار المصرية ألقى الله تعالى في قلب الملك المظفر قطز الخروج لقتالهم بعد أن كانت القلوب قد أيست من الانتصار على التتار؛ لكثرة عددهم، واستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، ولم يبق خارجاً عن حكمهم في الجانب الشرقي من العالم الإسلامي إلا الديار المصرية و الحجاز و اليمن، وهربت جماعة من المغاربة الذين كانوا بمصر إلى المغرب، وهرب جماعة من الناس إلى اليمن، والباقون في وجلٍ عظيم وخوفٍ شديد، يتوقعون دخول العدو وأخذ البلاد.

وصمم الملك المظفر رحمه الله على لقاء التتار، وخرج بالجحافل الشامية والمصرية وسافر إلى بلاد الشام للقائهم، ونزل بعين جالوت، وفيه وقعت المعركة الكبرى، ونصر الله المسلمين بثباتهم على دينهم وثبات قادتهم وجنودهم في وجه الطغيان والجبروت.

للعلماء للدعاة للخطباء للمربين دورٌ كبيرٌ في رفع المعنويات، لما قال بنو إسرائيل: {لَنْ نَدْخُلَهَا} [المائدة:24] {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24]، ماذا قال الرجلان من أولئك: {مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة:23]، اقتحموا والله يأتي بالنتائج وبالنصر، افعلوا ما طلب منكم وما أمرتم به، قاتلوا واقتحموا: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23].

وكان ابن تيمية أثبت الناس جأشاً، ولا أعظم عناءً في جهاد العدو منه، يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم.

وأخبر غير واحد أنه كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم واقيتهم وقطب ثباتهم، إن رأى من بعضهم هلعاً أو رقةً أو جبناً شجعه وثبته وبشره ووعده بالنصر والظفر والغنيمة، وبين له فضل الجهاد والمجاهدين، وإنزال الله عليهم السكينة، كان إذا ركب الخيل يتحنك، ويجول في العدو كأعظم الشجعان، ويثبت ويقوم كأثبت الفرسان، ويكبر تكبيراً أنكى في العدو من كثيرٍ من الفتك بهم، ويخوض فيهم خوض رجل لا يخاف الموت.

وحدثوا أنهم رأوا منه في فتح عكة أموراً من الشجاعة يعجز الواصفون عن وصفها، ولقد كان السبب في تملك المسلمين عكة بفعله ومشورته وحسن نظره.

ولما وقع الخوف في دمشق، وقال الناس: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لكثرتهم، يعني: لو اجتمعت العساكر المصرية والشامية لن تقف أمام التتار، وأن عليهم الانسحاب، وتحدث الناس بالأراجيف.

واجتمع الأمراء يوم الأحد بالميدان، وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي بالبلد ألا يرحل أحد منه، فسكن الناس، وجلس القضاة بالجامع، وحلف جماعة من الفقهاء والعامة على القتال، وحلفوهم عليه، وتوجه الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى العسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم فأعلمهم بما تحالف عليه الناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم.

وكان الشيخ تقي الدين رحمه الله يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرة منصورون، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله عز وجل مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60]، وهكذا كان يدور على الجيش ويفتيهم، وكانت المعركة في رمضان فيفتي بالفطر مدة قتالهم، ويأكل هو بنفسه أمام الناس أشياء ويقول: أفطروا فالفطر أقوى لكم، ويستدل لهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم.

ولما صارت سنة سبعمائة للهجرة، وحصلت الفتنة في دمشق وهرب أكثر الناس من البلد، وجرت خبطة قوية، ووردت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام ، وأنهم عازمون على دخول مصر أيضاً، انزعج الناس، وازدادوا ضعفاً على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرع الناس في الهرب إلى بلاد مصر و الكرج و الشوبك والحصون المنيعة، حتى بلغ ثمن الحمار الذي يوصل إلى مصر خمسمائة دينار، وبيع الجمل بألف دينار والحمار بخمسمائة، وبيعت الأمتعة والثياب بأرخص الأثمان، لأن الناس تبيع متاعها وتهرب من البلد.

أما الشيخ تقي الدين بن تيمية فقد جلس بمجلسه في الجامع وحرض الناس على القتال، وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، ونهى عن الإسراع في الفرار، ورغب في إنفاق الأموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم، وأن ما ينفق في أجرة الهرب إذا أنفق في سبيل الله كان خيراً، وأوجب جهاد التتار حتماً، وتابع المجالس في ذلك، كما ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية.


دموع القمر غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:53 AM


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd
All Rights Reserved Alhjaz forums © 2006 - 2020